السبت، 29 يونيو 2013

ثم ماذا .. !







منتصف الليل بالضبط .. جدتي نائمة بجواري، أتأملها بدون سبب ولا أدري ما علي فعله الان، ليلة صيفية خانقة الحرارة، جهاز التكييف متعطل ويبدو أنها لا تبالي، تتململ في نومتها فأتظاهر بالنوم أنا الأخرى؛ لا أريد ان تعرف كيف تمنعني هذه الحرارة البالغة عن النوم .. ستبالغ في القلق علي كعادتها.

أراقبها تتقلب وتتأفف دون أن تفتح عينيها، أتساءل في غيظ؛ هل يجب علي السفر حالا! سأخسر الكثير لو سافرت الان ! رخصة الاقامة التي يصعب تجديدها في الاحوال العادية سيكون من المستحيل علي طلبها مرة أخرى .. لماذا لا أنتظر شهرين أو ثلاثاً ! أعلم أن بمقدوري الانتظار، أتأفف أنا أيضاً بصوت عالٍ فتصحو جدتي، ترفع رأسها وهي تحاول اختراق الظلام الباهت لترى ما أزعجني بهذا الشكل .. يا الهي، فعلتها مرة أخرى ! لماذا لا أستطيع التفكير بصمت مثل بقية البشر ! أنظر الى السقف وأنا أستلقي كالميتة .. كلوح من الخشب يطفو على سطح البحر بعيدا عن كل الشواطئ.. أعود للتفكير في المأزق الذي وجدت نفسي فيه، هذه البلاد التي لا أحبها ولا أحب المكوث فيها تضطرني الظروف للتمسك بها بكل ما أملك من حيل، لن أرى والديّ ثانية لو تركتها بدون تجديد الإقامة، ولكن من يضمن لي أنهما لن يطردا منها قريبا قبل أن أجد الوقت للعودة، والداي الطيبان أكبر سناً من تحمل كل هذا التعنت والاضطهاد، حتى لو لم يحدث شيء بعد هذه التهديدات وحدها تقتل الاعصاب، ارتفاع الضغط أقل أعراض الحياة هنا ..

نعم هذه البلاد مقيتة، ولكن أين يمكن لنا الذهاب، نظرت إلى جدتي حين سمعتها تتأفف ثانية بسبب الحرارة، مرة أخرى أنسى أني تزوجت ولا يجب أن أقلق بخصوص البلد التي سأستقر فيها، لكن شيء ما داخلي لا يقدر على تقبل هذه الفكرة.. أن اتحدث عن والديّ بصيغة الغائب وأقول "أنا" و "هما" بعد بعد أن كنا "نحن" ! لا يمكنني ذلك، كما لا أستطيع الكفّ عن القلق والتفكير .. القلق مرتسم على وجوهنا جميعا، كل خططنا المستقبلية تبدأ بـ "الله أعلم" وتنتهي بـ "الله أعلم" .. لا شيء مضمون في هذه البلاد، ولا حتى إمكانية الحصول على مرتب الشهر القادم ! أبي يعيش بالقلق وللقلق كأن وقوده هو هذا التفكير والتساؤل غير المنتهي؛ أين سنكون غداً ! هل نستطيع العودة للوطن إن طُرِدنا من هنا ! هذا تساؤل آخر يفتح أبواباً من الأسى والصداع .. هل نستطيع حقا !! لا أظن ذلك، ولو أن أمي متفائلة كعادتها تجمع خططاً وطموحات كبيرة على أمل أن لا تستقبلنا نيران رصاص تائه في طريق العودة.. أفكر بصيغة الجمع مرة اخرى ! متى أتعلم وأصدق حقيقة انسحابي الجزئي من الضمير نحن ؟

سأسافر هذا الاسبوع كما يبدو .. علي أن أركز أفكاري على هذه القضية وحدها وأترك البقية للمستقبل القريب، هل أستطيع العودة إن تركت رخصة الاقامة بدون تجديد ! تأشيرة دخول من أجل العمرة ستكفيني لأيام معدودة فلم تعد هناك عمرة تمتد لشهر كما في الماضي السعيد، أخي حاول ولم يوفق في هذه المسألة .. ترى هل يستطيع العودة هنا ! مرت سنة ونصف منذ آخر مرة رأيناه فيها ولا يبدو أن الحظ السعيد سيحالفه هذه المرة .. حظه أفضل بكثير من حظ أختي الكبرى، كم سنة مرت على زيارتها الاخيرة ؟ قد تستطيع المجيء هذه السنة، أتمنى أن لا يشرطوا عليها وجود محرم معها ولا فلن تستطيع

 محرم .. ما شأنهم هم بوجود المحرم أو عدم وجوده ! هي بلاد متدينة في الظاهر فقط، مجرد قشرة خارجية هشة .. ولكن لا شان لي بذلك، ما يهمني هو مشكلتي الاصلية، هل أستطيع تجديد الإقامة حتى لو انتظرت الشهرين المطلوبين ؟ أبي مهدد بالطرد من عمله لأنه "أجنبي" كما يقولون، يريدون استبداله بأحد أبناء البلد، سيُطرد بعد أن خدم الشركة لثلاثين سنة هي سنوات عمري كله.. هل كان يعمل لديهم قبل مولدي ! لست متأكدة .. ثلاثون سنة تكفي لتشفع له عندهم حتى لو كانوا يهوداً إلا أن التهديد حقيقي ومعلق فوق رؤوسنا لما يزيد عن السنة .. لا بأس، لأركز على مشكلة واحدة وأترك البقية حتى يحين أوانها، سأسافر وأترك هذه البلاد التي تعادينا، يجب أن يكون الخبر مفرحا ! لكن لا أرى فيه غير المزيد من العناء.. أنظُر إلى جدتي في السرير المجاور تنفسها الثقيل أوحى لي أنها نائمة، وخشخشة رئتيها المريضتين، أطلت النظر قليلاً لأكتشف أنها تنظر لي هي الاخرى .. لم تكن نائمة كانت قَلِقَة مثلي أَرِقَة مثلي صَامِتَة مثلي .. كدت أسألها عما يؤرقها ثم فكرت أنها على الأرجح لا تدري أني سَاهِرَة مثلها قَلِقَة مثلها، هي على الأرجح لم تنتبه لعيني اللّتانِ ترمقانها في الظلام كمشاهد يتابع أحداث مسرحية بلا أبطال ..

أغمضت عيني وتظاهرت بالنوم لعلها تتخلص من أرقِها إن اطمأنت علي، يكفيها ما لديها من أمراض، يكفيها قلبها الكبير.. يقول الطبيب ان اتساعاً في قلبها هو ما يأكل صحتها ويسحب منها الروح، جدتي الطيبة قلبها الكبير هو علتها، كيف سنعالجها هنا وليس لديها التأمين الصحي المطلوب ! في هذه البلاد لابد ان تكون غنيا لتجرؤ على الإصابة بأمراض، أو في أحسن الأحوال تعمل في شركة تمنحك شرف التأمين على صحتك وصحة عائلتك .. لماذا يمنعون جدتي عن الانضمام إلى العائلة ! ألم تكن هي النبع الذي منه انطلقنا جميعنا ! أتقلب في غيظ مكبوت وأنا أفكر كيف سأتصرف ؟ سأسافر لتضيع مني الحياة الوحيدة التي أعرفها، أسافر لأفقد أغلى جزء من روحي.. وهل سيظلون بانتظاري هنا حتى أجد طريقاً للعودة إلى موطني؛ موطني الذي أعرفه هو بين ذراعيهما ولا موطن آخر لي ..

هل سأعود ! أطلت التأمل في وجه جدتي وغصة ما تخترق طريقها إلى حلقي .. لن يراني أحد لو بكيت الآن .. لكنها ستسمع نهنهتي .. سيتعب قلبها الكبير قلقاً على حفيدتها المتألمة .. كم أكره هذا الشعور، مقاومة الغصة ومحاولة ابتلاعها، كأنها لقمة مريرة الطعم أكبر من فمي .. قد أستطيع إيجاد طريقة للعودة ولكن هل سأجدهم هنا حينها ! أختي الصغرى هي ما يربطنا بهذا البلد، ستنهي دراستها الثانوية بعد أشهر، ثم ماذا ! أين سنكون ! أحتاج خريطة للعالم أحدد فيه البلاد التي أستطيع زيارتها لأقنعهم بالسفر إليها حين يتم تنفيذ الوعيد، الوطن غير مهيأ لاستقبالنا في الفترة الراهنة، لابد من بديل آخر ..

مرة أخرى أجد جدتي تتململ، أكتم أنفاسي ظناً مني أن تأففي القلق هو ما أزعجها، أجدها شبه نائمة، في المرحلة التي تشبه اليقظة ولا تشبهها، مرحلة الكوابيس النابعة من مشاكلنا اليومية .. بهدوء ودون أن تفتح عينيها تمد يدها إلى الطاولة الصغيرة بجوار سريرها، تقبض على المسبحة بحركة اعتيادية وتبدأ في التسبيح .. حتى في نومها لا تنسى عادتها المهدئة ! فيم تحتاج التهدئة تحت مظلة النوم الرحيمة ! أصيغ السمع اليها وأنا افكر في المأزق الذي لا أجد له حلا ..

 " استغفر الله . استغفر الله . استغفر الله "
قد يكون الحل سهلاً وأمام ناظريّ، احتاج فقط إلى شيء من الانتباه
" استغفر الله . استغفر الله . استغفر الله "
أشعر ببعض النعاس وما يزال فكري مشغولاً بالمكان الذي سيأوينا مستقبلاً، قد لا تكون الأمور بهذه الصعوبة التي تبدو عليها الآن
" استغفر الله . استغفر الله . استغفر الله "
جفناي الثقيلان ينغلقان بدون وعي مني وما أزال أتمعن في الفكرة، لدينا بيت كبير هناك في الوطن، ماذا لو أعدنا ترميمه في الأشهر القادمة؟ قد تكون الحياة مقبولة فيه! أنسى الحرارة قليلاً وأغمض عيني بينما أنفاسي تنتظم بثقل
" استغفر الله . استغفر الله . استغفر الله "
خاطرة سريعة تمر بذهني، لدينا رب رحيم، لا يجب علي القلق .. ستجد الحلول طريقها إلينا
" استغفر الله . استغفر الله . استغفر الله "
يتنزل علي هدوء غريب وتزول بعض الحرارة، تختفي الغصة وأرى أمامي شخوصاً فارقتهم منذ زمن.. يا الله! كم اشتقت اليكم ..
" استغفر الله . استغفر الله . استغفر الله "
لا أدري لماذا أبتسم لكني أفعل .. أعرف أني سأراهم قريبا
 .. الحمد لله ..

يبتعد صوت جدتي وتقترب صور الأحباء الذين اشتقتهم، تزول العتمة رويدا رويدا ويبتلعني النور..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق