الأربعاء، 24 يوليو 2013

الضباب يسرد حكايتي





كلما استغرقت في التخطيط للحاضر هاجمني الماضي بعنف ذكرياته، وكلما استسلمتُ للغوص فيه انتزعني قلق المستقبل منه، ذهني مشتتُ بين ما كان وما سيكون حتى أصبح الحاضر غمامة غير واضحة المعالم، تحوّل إلى ضباب أرى منه أول الشارع ولا يمتد بصري إلى أبعد من ذلك .. 

حتى الذهن الضبابي يستدعي المزيد من الذكريات .. أذكر باص الجامعة الذي كنتُ اعتبره امتداداً لغرفة النوم، كنتُ أستغرق في النوم بمجرد أن أستقرّ على الكرسي وأحجز الآخر بجواري حتى تأتي صديقتي دون أن أنتبه وتجلس بهدوء حاملة كتبي وكتبها معاً، أذكر يوم قررت بطموح متزايد أن أصبح فوتوغرافية محترفة ! كانت لديّ كاميرا عادية من النوع الذي يضطرك للبحث عن استوديو ذو أسعار معقولة يحمّض الصور خلال يومين على أقل تقدير، منذ ذلك اليوم التصقت الذكرى بذهني، وأصبح الضباب لا يذكرني إلا بذلك الطريق الطويل، الكوبري الذي يبدو من خلال الضباب كأنه سيستمر حتى نهاية العمر، العربات السريعة التي تظهر من العدم لتختفي فيه مرة أخرى كأنها لمحة من الخيال، الهدوء المترقب كأننا بانتظار أن يظهر أمامنا جبل ثلجي يصطدم بنا ويغرقنا في دقائق معدودة .. 

كان خيالي خصباً وكان الضباب موحياً جداً .. أذكر أني ألصقتُ وجهي على النافذة ذلك اليوم أتأمل الطريق حتى أجد ما يستحق التصوير، وجدتُ الكثير مما أثار مخيلتي لتنسج قصصاً لا علاقة لها بالواقع، قصصاً عن العائلات التي تسكن البيوت الصغيرة المتناثرة على جانبي الطريق، أنصاف بيوت من الطوب الأحمر كأن بانيها فقد اهتمامه بشكل مفاجئ ونسي أن يكملها، قصص أخرى عن الطفولة المشرّدة، شيء يشبه الترعة الصغيرة يتراءى لي في عتمة الضباب، حوله أكوام من القمامة وطفلان حافيان يأكلان شيئاً لا أستطيع تمييزه ويضحكان بخفة ومرح، كان منظراً مؤسفاً أكثر منه موحياً ولكن ذلك لم يمنع خيالي النشط من تصوير قصة طويلة تحكي مولد الملائكة الصغار في وكر الشياطين وكيف يكبران ويتخلصان من العالم السفلي الذي يشدهما إلى الأسفل أكثر وأكثر، شجرة يتيمة متوسطة الحجم ظهرت فجأة في صفحة من الاخضرار المغبّش بالضباب، أثارني شكلها وظللتُ أتأملها حتى غابت عن ناظري، تخيلت قصة عاشقين صغيري السن ينسجان ذكرياتهما على جذعها ويبكيان عجزهما أمام سطوة الكبار، تخيلت عجوزاً يجلس إليها يستظل بها في يوم صيفي شديد الحرارة ليتذكر ملاكاً لوّنت سنوات عمره بالأبيض البرّاق حتى خذلته الأيام واختطفتها منه، تخيلت نفسي هناك أجلس إليها أستظل بها أنا أيضاً أكتب على ورقة صغيرة "هذه الأرض لي" ثم أمضي ..



كان إحساسي بالفراغ أكبر مني ومن رغبتي في الشهرة، كنتُ أبحث عن أرض تكون لي قبل أن أبحث عن صفةٍ أتقمصها وأتسمّى باسمها .. لم أحظ بأي صورة ذلك اليوم؛ كل ما استطعت الحصول عليه كان صفحة من الرمادي والأخضر وطيف شجرة مهزوزة مشوشة، تخليت عن رغبة الاحتراف في عالم التصوير بنفس السرعة، واحتفظتُ بالشجرة في أعماق روحي .. شعرتُ أن وحياً تنزّل عليّ ذلك اليوم وأني رأيت حيوات آخرين لا أعرفهم لأعرف من خلالهم ألمي الخفيّ وحلمي المتهدّم، عتمة الضباب استمرت لبقية الطريق لكن بعد أن أصبح ذهني صافياً لوهلة من الزمن، صافياً لدرجة عرفت معها ما أريد، وما أتمنى .. وما أستطيع الحصول عليه  

هناك تعليق واحد: